حوادث الحج والحجاج لا تنتهي ولا تنحصر، وفي بعضها من الغرائب والعجائب ما فيها، وبعضه يروى على ذمة ناقله، والله أعلم به..! ولكن لا يمنع الواقع من صدق الكثير منه والله على كل شيء قدير!
عن محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: كنت أمشي في طريق مكة إذ سمعت رجلا مغربيا على بغل وبين يديه مناد ينادي: من أصاب هميانا فله ألف دينار. قال وإذ بإنسان أعرج عليه أطمار رثة خلقان يقول للمغربي: ايش علامة الهميان فقال: كذا وكذا وفيه بضائع لقوم وأنا أعطي من مالي ألف دينار. فقال الفقير: من يقرأ الكتابة قال ابن عسكر: فقلت أنا أقرأ. قال: اعدلوا بنا ناحية من الطريق فعدلنا فأخرج الهميان فجعل المغربي يقول: حبتين لفلانة ابنة فلان مائة دينار، وحبة لفلان بمائة دينار. وجعل يعد فإذا هو كما قال، فحل المغربي هميانه وقال: خذ ألف دينار التي وعدت علي وجادة الهميان. فقال الأعرج: لو كان قيمة الهميان الذي أعطيتك عندي بعرتين ما كنت تراه، فكيف آخذ منك ألف دينار على ما هذا قيمته، وقام ومضى ولم يأخذ منه شيئاً.
وعن محمد بن عبدالله الفرغاني قال: حدثني أبو جعفر الحداد قال: كنت في طريق مكة فجلست استريح، فاذا إلى جانبي عصفور على حجر، فلم يبرح ولم يستوحش، فجعلت أبصر اليه يجيء الذباب فيضرب منقاره ويرم حواليه فيفتح فاه فيدخل الذباب فيه، فرأيت هذا منه مراراً، فقمت إليه فإذا هو أعمى والذباب الذي يجيء إليه رزقه.
وحكى الحافظ المزني في تهذيبه، في ترجمة عبيد بن واقد الليثي البصري، أنه قال: خرجت أريد الحج، فوقفت على رجل بين يديه غلام من أحسن الغلمان صورة، وأكثرهم حركة، فقلت: من هذا، ومن يكون؟ قال: ابني. وسأحدثك عنه. خرجت مرة حاجاً، ومعي أم هذا الغلام، وهي حامل به، فلما كنا في بعض الطريق، ضربها الطلق فولدت هذا الغلام وماتت. وحضر الرحيل، فأخذت الصبي، فلففته في خرقة، وجعلته في غار، وبنيت عليه أحجاراً، وارتحلت وأنا أرى انه يموت من ساعته. فقضينا الحج، ورجعنا فلما نزلنا ذلك المنزل، بادر بعض أصحابي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا هو بالصبي يلتقم ابهاميه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منهما. فاحتملته معي فهو الذي ترى.
قال الحسن بن علي قاضي مرو: كان أبو حنيفة من أفطن الناس، وذلك ان رجلا كان يتجمل بالستر الظاهر والسمت البين، وكان يلبّس على ذلك، فقدم رجل فأودعه مالا خطيرا وخرج حاجا، فلما قضى نسكه عاد إلى صاحبه وطلب وديعته فجحده، فألح عليه فتمادى، وكاد يهيم الرجل، واستشار ثقة له فقال له: كف عنه وصر إلى أبي حنيفة فدواؤك عنده، فانطلق الرجل اليه وخلا به وأعلمه شأنه وشرح له قصته، فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بها أحداً، وامض راشداً وعد إليَّ غداً، فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته واختلف الناس اليه، فجعل يتنفس الصعداء كلما سئل عن شيء، فقيل له في ذلك قال
: إن هؤلاء ــ يعني السلطان ــ قد احتاجوا إلى رجل يبعثون به قاضياً إلى مكان، فقال الناس: اختر من أحببت فما يحضرك إلا نجم، ثم أسبل كمه وخلا بصاحب الوديعة وقال له: أترغب حتى أسميك؟ فذهب يتمنع عليه، فقال له أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تريد، فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة، وصار رب المال إلى أبي حنيفة فقال له: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا ولوح بذكري، وكفاك، فمضى صاحب الوديعة إلى الرجل وطالبه بالمال فوفاه ماله، فصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه، فقال: استر عليه، ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعا في القضاء، نظر إليه أبو حنيفة وقال: انه قد نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
وعن محمد بن يزيد بن حبيش، قال حدثني رجل من اخواننا، قال: بينما أنا بعرفة، إذ أنا بامرأة وهي تقول: «مَنْ يَهْد الله فَما لَهُ منْ مُضلَ»، و«وَمَنْ يُضَلل الله فَلاَ هَادي لهُ» فعلمت أنها ضالة، فقلت:
لعلك ضالة؟ قالت: «فَفَهَّمنَها سُليمان وَكُلاَّ آتيْنا حُكماً وعلْماً»، فأنخت بعيري، ونزلت عنه، وحملتها، فقلت: من أين أنت رحمك الله؟ قالت: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى» فعلمت أنها من أهل بيت المقدس، فجعلت أسأل عن زقاق المقدسيين، حتى انتهيت إلى قوم فسألوها فلم تكلمهم، فقالوا: لعلها حرورية لا ترى انتكلمنا، فقالت: «ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم» وحانت منها التفاتة فرأت طردانا قد عرفتها، فقالت: «وعلامات وبالنجم هم يهتدون» فعلمت أنهاتريد الطرادات، فقصدت بها نحوها، فقلت: من أنادي؟
وعمن أسأل؟ فقالت: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض» «يا يحيي خذ الكتاب بقوة» «يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيي» فعلمت أنها تريد داود ويحيي وزكريا،فجعلت أقول: يا داود، يا يحيي، يا زكريا، فخرج عليَّ ثلاثة فتيان، فقالوا: أمنا ورب الكعبة، أضللنها منذ ثلاث فالتفتت اليهم، فقالت: «فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما، فليأتكم برزق منه وليتطلف» فعلمت أنها أمرتهم ان يزودوني فأخذوا مزاودي فذهبوا بها إلى السوق فملأوها، ثم أتوني بها، فقلت: ما حال هذه؟ قالوا: هذه أمنا، ولم تتكلم بشيء سوى القرآن منذ ثلاثين سنة خشية ان تزل.